فصل: سورة غافر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البغوي المسمى بـ «معالم التنزيل» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ‏(‏23‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا‏}‏ يشبه بعضه بعضًا في الحسن، ويصدق بعضه بعضًا ليس فيه تناقض ولا اختلاف‏.‏ ‏{‏مَثَانِيَ‏}‏ يثنى فيه ذكر الوعد والوعيد، والأمر والنهي، والأخبار والأحكام، ‏{‏تَقْشَعِر‏}‏ تضطرب وتشمئز، ‏{‏مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ‏}‏ والاقشعرار تغير في جلد الإنسان عند الوجل والخوف، وقيل‏:‏ المراد من الجلود القلوب، أي‏:‏ قلوب الذين يخشون ربهم، ‏{‏ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ لذكر الله، أي‏:‏ إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرت جلود الخائفين لله، وإذا ذكرت آيات الرحمة لانت وسكنت قلوبهم، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ألا بذكر الله تطمئن القلوب‏"‏ ‏[‏الرعد - 28‏]‏‏.‏

وحقيقة المعنى‏:‏ أن قلوبهم تقشعر من الخوف، وتلين عند الرجاء‏.‏

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرني الحسين بن محمد، حدثنا موسى بن محمد بن علي، حدثنا محمد بن عبدوس بن كامل، حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني، حدثنا عبد العزيز بن محمد عن يزيد بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أم كلثوم بنت العباس، عن العباس بن عبد المطلب قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرني الحسين بن محمد، حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان، حدثنا موسى بن إسحاق الأنصاري، حدثنا محمد بن معاوية، حدثنا الليث بن سعد، حدثنا يزيد بن عبد الله بن الهاد بهذا الإسناد، وقال‏:‏ ‏"‏إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله حرمه الله على النار‏"‏‏.‏

قال قتادة‏:‏ هذا نعت أولياء الله نعتهم الله بأن تقشعر جلودهم وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم، إنما ذلك في أهل البدع، وهو من الشيطان‏.‏

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه، ثنا ابن شيبة، حدثنا حمدان بن داود، حدثنا سلمة بن شيبة، حدثنا خلف بن سلمة، حدثنا هشيم عن حصين عن عبد الله بن عروة بن الزبير قال‏:‏ قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر‏:‏ كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلون إذا قرئ عليهم القرآن‏؟‏ قالت‏:‏ كانوا كما نعتهم الله عز وجل تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم، قال فقلت لها‏:‏ إن ناسًا اليوم إذا قرئ عليهم القرآن خر أحدهم مغشيًا عليه، فقالت‏:‏ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم‏.‏

وبه عن ‏[‏سليمان بن‏]‏ سلمة ثنا يحيى بن يحيى، حدثنا سعيد بن عبد الرحمن الجمحي أنا ابن عمر‏:‏ مر برجل من أهل العراق ساقطًا فقال‏:‏ ما بال هذا‏؟‏ قالوا‏:‏ إنه إذا قرئ عليه القرآن أو سمع ذكر الله سقط، قال ابن عمر‏:‏ إنا لنخشى الله وما نسقط‏!‏

وقال ابن عمر‏:‏ إن الشيطان ليدخل في جوف أحدهم، ما كان هذا صنيع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وذكر عن ابن سيرين‏:‏ الذين يصرعون إذ قرئ عليهم القرآن‏؟‏ ‏[‏فقال‏:‏ بيننا وبينهم أن يقعد أحدهم على ظهر بيت باسطًا رجليه ثم يقرأ عليه القرآن‏]‏ من أوله إلى آخره، فإن رمى بنفسه فهو صادق‏.‏

‏{‏ذَلِكَ‏}‏ يعني‏:‏ أحسن الحديث، ‏{‏هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24 - 28‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ‏(‏24‏)‏ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ‏(‏25‏)‏ فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏26‏)‏ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏27‏)‏ قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ‏}‏ أي‏:‏ شدته، ‏{‏يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ يجر على وجهه في النار‏.‏ وقال عطاء‏:‏ يرمى به في النار منكوسًا فأول شيء منه تمسه النار وجهه‏.‏ قال مقاتل‏:‏ هو أن الكافر يرمى به في النار مغلولة يداه إلى عنقه، وفي عنقه صخرة مثل جبل عظيم من الكبريت، فتشتعل النار في الحجر، وهو معلق في عنقه فخرَّ ووهجها على وجهه لا يطيق دفعها عن وجهه، للأغلال التي في عنقه ويده‏.‏

ومجاز الآية‏:‏ أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب كمن هو آمن من العذاب‏؟‏

‏{‏وَقِيلَ‏}‏ يعني‏:‏ تقول الخزنة، ‏{‏لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ‏}‏ أي‏:‏ وباله‏.‏

‏{‏كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏}‏ من قبل كفار مكة كذبوا الرسل، ‏{‏فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ وهم آمنون غافلون من العذاب‏.‏

‏{‏فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ‏}‏ العذاب والهوان، ‏{‏فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ‏}‏ يتعظون‏.‏

‏{‏قُرْآنًا عَرَبِيًّا‏}‏ نصب على الحال، ‏{‏غَيْرَ ذِي عِوَجٍ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ غير مختلف‏.‏ قال مجاهد‏:‏ غير ذي لبس‏.‏ قال السدي‏:‏ غير مخلوق‏.‏ ويروى ذلك عن مالك بن أنس، وحكي عن سفيان بن عيينة عن سبعين من التابعين أن القرآن ليس بخالق ولا مخلوق ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ الكفر والتكذيب به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29 - 31‏]‏

‏{‏ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ‏(‏29‏)‏ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ‏(‏30‏)‏ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا‏}‏ قال الكسائي‏:‏ نصب رجلا لأنه تفسير للمثل، ‏{‏فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ‏}‏ متنازعون مختلفون سيئة أخلاقهم، يقال‏:‏ رجل شكس شرس، إذا كان سيء الخلق، مخالفًا للناس، لا يرضى بالإنصاف، ‏{‏وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ‏}‏ قرأ أهل مكة والبصرة‏:‏ ‏"‏سالما‏"‏ بالألف أي‏:‏ خالصًا له لا شريك ولا منازع له فيه، ‏[‏وقرأ الآخرون‏:‏ ‏"‏سلما‏"‏ بفتح اللام من غير ألف، وهو الذي لا ينازع فيه‏]‏ من قولهم‏:‏ هو لك سلم، أي‏:‏ مسلم لا منازع لك فيه‏.‏ ‏{‏هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا‏}‏ هذا مثل ضربه الله عز وجل للكافر الذي يعبد آلهة شتى، والمؤمن الذي لا يعبد إلا الله الواحد، وهذا استفهام إنكار أي‏:‏ لا يستويان، ثم قال‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ‏}‏ أي‏:‏ لله الحمد كله دون غيره من المعبودين‏.‏ ‏{‏بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ‏}‏ ما يصيرون إليه والمراد بالأكثر الكل‏.‏

‏{‏إِنَّكَ مَيِّتٌ‏}‏ أي‏:‏ ستموت، ‏{‏وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ‏}‏ أي‏:‏ سيموتون، قال الفراء والكسائي‏:‏ الميت - بالتشديد - من لم يمت وسيموت، الميت - بالتخفيف - من فارقه الروح، ولذلك لم يخفف هاهنا‏.‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني‏:‏ المحق والمبطل، والظالم والمظلوم‏.‏

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا ابن مالك، حدثنا ابن حنبل، حدثني أبي، حدثنا ابن نمير، حدثنا محمد يعني ابن عمرو عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن عبد الله بن الزبير، عن الزبير بن العوام قال‏:‏ لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون‏"‏ قال الزبير‏:‏ أي رسول الله أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم ليكررن عليكم حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه‏"‏ قال الزبير‏:‏ والله إن الأمر لشديد‏.‏ وقال ابن عمر‏:‏ عشنا برهة من الدهر وكنا نرى أن هذه الآية أنزلت فينا وفي أهل الكتابين ‏"‏ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون‏"‏ قلنا‏:‏ كيف نختصم وديننا وكتابنا واحد‏؟‏ حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف، فعرفت أنها نزلت فينا‏.‏

وعن أبي سعيد الخدري في هذه الآية قال‏:‏ كنا نقول ربنا واحد وديننا واحد ونبينا واحد فما هذه الخصومة‏؟‏ فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا‏:‏ نعم هو هذا‏.‏

وعن إبراهيم قال‏:‏ لما نزلت‏:‏ ‏"‏ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون‏"‏ قالوا‏:‏ كيف نختصم ونحن إخوان‏؟‏ فلما قتل عثمان قالوا‏:‏ هذه خصومتنا‏؟‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح، أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، حدثنا علي بن الجعد، حدثنا ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من كانت لأخيه عنده مظلمة من عرض أو مال فليتحلله اليوم قبل أن يؤخذ منه يوم لا دينار ولا درهم، فإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له أخذ من سيئاته فجعلت عليه‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي، أخبرنا أبو الحسن الطيسفوني، أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري، حدثنا أحمد بن علي الكشمهيني، حدثنا علي بن حجر، حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أتدرون من المفلس‏"‏‏؟‏ قالوا‏:‏ المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال‏:‏ ‏"‏إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، وكان قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيقضي هذا من حسناته وهذا من حسناته، ‏[‏قال‏:‏ فإن فنيت حسناته‏]‏ قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32 - 36‏]‏

‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ ‏(‏32‏)‏ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ‏(‏33‏)‏ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏34‏)‏ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏35‏)‏ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ‏(‏36‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ‏}‏ فزعم أن له ولدًا وشريكًا، ‏{‏وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ‏}‏ بالقرآن، ‏{‏إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى‏}‏ منزل ومقام، ‏{‏لِلْكَافِرِينَ‏}‏ استفهام بمعنى التقرير‏.‏

‏{‏وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏"‏والذي جاء بالصدق‏"‏ يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بلا إله إلا الله ‏"‏وصدق به‏"‏ الرسول أيضًا بلغه إلى الخلق‏.‏ وقال السدي‏:‏ ‏"‏والذي جاء بالصدق‏"‏ جبريل جاء بالقرآن، ‏"‏وصدق به‏"‏ محمد صلى الله عليه وسلم تلقاه بالقبول‏.‏ وقال الكلبي وأبو العالية‏:‏ ‏"‏والذي جاء بالصدق‏"‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏وصدق به‏"‏ أبو بكر رضي الله عنه‏.‏ وقال قتادة ومقاتل‏:‏ ‏"‏والذي جاء بالصدق‏"‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏وصدق به‏"‏ هم المؤمنون، لقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ‏}‏ وقال عطاء‏:‏ ‏"‏والذي جاء بالصدق‏"‏ الأنبياء ‏"‏وصدق به‏"‏ الأتباع، وحينئذ يكون الذي بمعنى‏:‏ الذين، كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏مثلهم كمثل الذي استوقد نارا‏"‏ ‏[‏البقرة - 17‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏ذهب الله بنورهم‏"‏ ‏[‏البقرة - 17‏]‏ وقال الحسن‏:‏ هم المؤمنون صدقوا به في الدنيا وجاءوا به في الآخرة‏.‏ وفي قراءة عبد الله بن مسعود‏:‏ والذين جاءوا بالصدق وصدقوا به‏.‏ ‏{‏أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا‏}‏ يسترها عليهم بالمغفرة، ‏{‏وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ يجزيهم بالمحاسن من أعمالهم ولا يجزيهم بالمساوئ‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ‏}‏‏؟‏ يعني‏:‏ محمدًا صلى الله عليه وسلم، وقرأ أبو جعفر وحمزة والكسائي‏:‏ ‏"‏عباده‏"‏ بالجمع يعني‏:‏ الأنبياء عليهم السلام، قصدهم قومهم بالسوء كما قال‏:‏ ‏"‏وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه‏"‏ ‏[‏غافر - 5‏]‏ فكفاهم الله شر من عاداهم، ‏{‏وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ‏}‏ وذلك أنهم خوفوا النبي صلى الله عليه وسلم معرة الأوثان‏.‏ وقالوا‏:‏ لتكفن عن شتم آلهتنا أو ليصيبنك منهم خبل أو جنون ‏{‏وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37 - 42‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ ‏(‏37‏)‏ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ‏(‏38‏)‏ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏39‏)‏ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ‏(‏40‏)‏ إِنَّا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏41‏)‏ اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ‏}‏ منيع في ملكه، منتقم من أعدائه‏.‏ ‏{‏ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر‏}‏ بشدة وبلاء، ‏{‏هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ‏}‏ بنعمة وبركة، ‏{‏هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ‏}‏ قرأ أهل البصرة‏:‏ ‏"‏كاشفات‏"‏ و‏"‏ممسكات‏"‏ بالتنوين، ‏"‏ضره‏"‏ ‏"‏ورحمته‏"‏ بنصب الراء والتاء، وقرأ الآخرون بلا تنوين وجر الراء والتاء على الإضافة، قال مقاتل‏:‏ فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فسكتوا، فقال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ‏}‏، ثقتي به واعتمادي عليه، ‏{‏عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ‏}‏ يثق به الواثقون‏.‏

‏{‏قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ ينزل عليه عذاب دائم‏.‏

‏{‏إِنَّا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا‏}‏ وبال ضلالته عليه، ‏{‏وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ‏}‏ بحفيظ ورقيب لم توكل بهم ولا تؤاخذ بهم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ‏}‏ أي‏:‏ الأرواح، ‏{‏حِينَ مَوْتِهَا‏}‏ فيقبضها عند فناء أكلها وانقضاء أجلها، وقوله‏:‏ ‏{‏حِينَ مَوْتِهَا‏}‏ يريد موت أجسادها‏.‏ ‏{‏وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ‏}‏ يريد يتوفى الأنفس التي لم تمت، ‏{‏فِي مَنَامِهَا‏}‏ والتي تتوفى عند النوم هي النفس التي يكون بها العقل والتمييز، ولكل إنسان نفسان‏:‏ إحداهما نفس الحياة وهي التي تفارقه عند الموت فتزول بزوالها النفس، والأخرى نفس التمييز وهي التي تفارقه إذا نام، وهو بعد النوم يتنفس ‏{‏فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ‏}‏ فلا يردها إلى الجسد‏.‏

قرأ حمزة والكسائي‏:‏ ‏"‏قضى‏"‏ بضم القاف وكسر الضاد وفتح الياء، ‏"‏الموت‏"‏ رفع على ما لم يسم فاعله، وقرأ الآخرون بفتح القاف والضاد، ‏"‏الموت‏"‏ نصب لقوله عز وجل‏:‏ ‏"‏الله يتوفى الأنفس‏"‏ ‏{‏وَيُرْسِلُ الأخْرَى‏}‏ ويرد الأخرى وهي التي لم يقض عليها الموت إلى الجسد، ‏{‏إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى‏}‏ إلى أن يأتي وقت موته‏.‏

ويقال‏:‏ للإنسان نفس وروح، فعند النوم تخرج النفس وتبقي الروح‏.‏ وعن عليّ قال‏:‏ تخرج الروح عند النوم ويبقى شعاعه في الجسد، فبذلك يرى الرؤيا، فإذا انتبه من النوم عاد الروح إلى جسده بأسرع من لحظة‏.‏ ويقال‏:‏ إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف ما شاء الله، فإذا أرادت الرجوع إلى أجسادها أمسك الله أرواح الأموات عنده، وأرسل أرواح الأحياء حتى ترجع إلى أجسادها إلى انقضاء مدة حياتها‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زهير حدثنا عبد الله بن عمر حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه، ثم يقول‏:‏ باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين‏"‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ لدلالات على قدرته حيث لم يغلط في إمساك ما يمسك من الأرواح، وإرسال ما يرسل منها‏.‏

قال مقاتل‏:‏ لعلامات لقوم يتفكرون في أمر البعث، يعني‏:‏ إن توفي نفس النائم وإرسالها بعد التوفي دليل على البعث‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43 - 46‏]‏

‏{‏أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ ‏(‏43‏)‏ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏44‏)‏ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ‏(‏45‏)‏ قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ‏}‏ يا محمد، ‏{‏أَوَلَوْ كَانُوا‏}‏ وإن كانوا يعني الآلهة، ‏{‏لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا‏}‏ من الشفاعة، ‏{‏وَلا يَعْقِلُونَ‏}‏ أنكم تعبدونهم‏.‏ وجواب هذا محذوف تقديره‏:‏ وإن كانوا بهذه الصفة تتخذونهم‏.‏

‏{‏قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا‏}‏ قال مجاهد‏:‏ لا يشفع أحد إلا بإذنه، ‏{‏لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏‏.‏ ‏{‏وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ‏}‏ نفرت، وقال ابن عباس ومجاهد ومقاتل‏:‏ انقبضت عن التوحيد‏.‏ وقال قتادة‏:‏ استكبرت‏.‏ وأصل الاشمئزاز النفور والاستكبار، ‏{‏قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ‏}‏‏.‏

‏{‏وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ‏}‏ يعني‏:‏ الأصنام ‏{‏إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ‏}‏ يفرحون، قال مجاهد ومقاتل‏:‏ وذلك حين قرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة والنجم فألقى الشيطان في أمنيته‏:‏ تلك الغرانيق العلى، ففرح به الكفار‏.‏

‏{‏قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏، أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أخبرنا أبو نعيم الإسفراييني، أخبرنا أبو عوانة، حدثنا السلمي، حدثنا النضر بن محمد، حدثنا عكرمة بن عمار، أخبرنا يحيى بن أبي كثير، حدثنا أبو سلمة قال‏:‏ سألت عائشة رضي الله عنها بم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة من الليل‏؟‏ قالت‏:‏ كان يقول‏:‏ ‏"‏اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47 - 50‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ‏(‏47‏)‏ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏48‏)‏ فَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ‏(‏49‏)‏ قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ ظهر لهم حين بعثوا ما لم يحتسبوا في الدنيا أنه نازل بهم في الآخرة‏.‏ قال السدي‏:‏ ظنوا أنها حسنات فبدت لهم سيئات، والمعنى‏:‏ أنهم كانوا يتقربون إلى الله بعبادة الأصنام، فلما عوقبوا عليها بدا لهم من الله ما لم يحتسبوا‏.‏ وروي أن محمد بن المنكدر جزع عند الموت، فقيل له في ذلك فقال‏:‏ أخشى أن يبدو لي ما لم أحتسب‏.‏

‏{‏وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا‏}‏ أي‏:‏ مساوئ أعمالهم من الشرك والظلم بأولياء الله‏.‏ ‏{‏وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏فَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ‏}‏ شدة، ‏{‏دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ‏}‏ أعطيناه ‏{‏نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ‏}‏ أي‏:‏ على علم من الله أني له أهل‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ على خير علمه الله عندي، وذكر الكناية لأن المراد من النعمة الإنعام، ‏{‏بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ‏}‏ ‏[‏يعني‏:‏ تلك النعمة فتنة‏]‏ استدراج من الله تعالى وامتحان وبلية‏.‏ وقيل‏:‏ بل كلمته التي قالها فتنة‏.‏ ‏{‏وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ‏}‏ أنه استدراج وامتحان‏.‏

‏{‏قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ يعني قارون فإنه قال‏:‏ ‏"‏إنما أوتيته على علم عندي‏"‏ ‏[‏القصص - 78‏]‏ ‏{‏فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏ فما أغنى عنهم الكفر من العذاب شيئًا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51 - 53‏]‏

‏{‏فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏51‏)‏ أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏52‏)‏ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا‏}‏ أي‏:‏ جزاؤها يعني العذاب‏.‏ ثم أوعد كفار مكة فقال‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ‏}‏ بفائتين لأن مرجعهم إلى الله عز وجل‏.‏

‏{‏أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ‏}‏ أي‏:‏ يوسع الرزق لمن يشاء، ‏{‏وَيَقْدِرُ‏}‏ أي‏:‏ يقتر على من يشاء، ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ‏}‏

روى سعيد بن جبير عن ابن عباس‏:‏ أن ناسًا من أهل الشرك كانوا قتلوا وأكثروا، وزنوا وأكثروا، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا‏:‏ إن الذي تدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزلت هذه الآية‏.‏

وقال عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وحشي يدعوه إلى الإسلام، فأرسل إليه‏:‏ كيف تدعوني إلى دينك وأنت تزعم أن من قتل أو أشرك أو زنى يلق آثامًا، يضاعف له العذاب، وأنا قد فعلت ذلك كله، فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏"‏إلا من تاب وآمن وعمل صالحا‏"‏ ‏[‏مريم - 60‏]‏ فقال وحشي‏:‏ هذا شرط شديد لعلي لا أقدر عليه فهل غير ذلك‏؟‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏"‏إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 48، 116‏]‏ فقال وحشي‏:‏ أراني بعد في شبهة، فلا أدري يغفر لي أم لا‏؟‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏"‏قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله‏"‏، فقال وحشي‏:‏ نعم هذا، فجاء وأسلم، فقال المسلمون‏:‏ هذا له خاصة أم للمسلمين عامة‏؟‏ فقال‏:‏ بل للمسلمين عامة‏.‏

وروي عن ابن عمر قال‏:‏ نزلت هذه الآيات في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا قد أسلموا ثم فتنوا وعذبوا، فافتتنوا فكنا نقول‏:‏ لا يقبل الله من هؤلاء صرفًا ولا عدلا أبدًا، قوم أسلموا ثم تركوا دينهم لعذاب عذبوا فيه، فأنزل الله تعالى هذه الآيات، فكتبها عمر بن الخطاب بيده ثم بعث بها إلى عياش بن ربيعة والوليد بن الوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا‏.‏

وروى مقاتل بن حيان عن نافع عن ابن عمر قال‏:‏ كنا معاشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نرى أو نقول‏:‏ ليس بشيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة حتى نزلت‏:‏ ‏"‏أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم‏"‏ ‏[‏محمد - 33‏]‏ فلما نزلت هذه الآية قلنا‏:‏ ما هذا الذي يبطل أعمالنا‏؟‏ فقلنا‏:‏ الكبائر والفواحش، قال‏:‏ فكنا إذا رأينا من أصاب شيئًا منها قلنا قد هلك، فنزلت هذه الآية، فكففنا عن القول في ذلك، فكنا إذا رأينا أحدًا أصاب منها شيئًا خفنا عليه، وإن لم يصب منها شيئًا رجونا له، وأراد بالإسراف ارتكاب الكبائر‏.‏

وروي عن ابن مسعود أنه دخل المسجد فإذا قاص يقص وهو يذكر النار والأغلال، فقام على رأسه فقال‏:‏ يا مذكر لم تقنط الناس‏؟‏ ثم قرأ‏:‏ ‏"‏يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو بكر بن أبي الهيثم الترابي، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد الحموي أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن خزيم الشاشي، حدثنا ‏[‏عبد الله‏]‏ بن حميد، حدثنا حيان بن هلال وسليمان بن حرب وحجاج بن منهال قالوا‏:‏ حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد قالت‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏{‏يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا‏}‏ ولا يبالي‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد ابن أبي عدي عن شعبة عن قتادة عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنسانًا، ثم خرج يسأل فأتى راهبًا فسأله، فقال‏:‏ هل لي من توبة‏؟‏ فقال‏:‏ لا فقتله فكمل به المائة، فقال له رجل‏:‏ ائت قرية كذا وكذا، فأدركه الموت فنأى بصدره نحوها، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تقربي وأوحى إلى هذه أن تباعدي، وقال‏:‏ قيسوا ما بينهما فوجد إلى هذه أقرب بشبر فغفر له‏"‏‏.‏

ورواه مسلم بن الحجاج عن محمد بن المثنى العنبري عن معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة بهذا الإسناد، وقال‏:‏ ‏"‏فدل على راهب فأتاه فقال إنه قتل تسعة وتسعين نفسًا فهل له من توبة‏؟‏ فقال له‏:‏ لا فقتله وكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم، فقال له‏:‏ قتلت مائة نفس فهل لي من توبة‏؟‏ فقال‏:‏ نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة‏؟‏ انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسًا يعبدون الله فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا كان نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأتاهم ملك من صورة آدمي فجعلوه بينهم فقال‏:‏ قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب، عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏قال رجل - لم يعمل خيرًا قط - لأهله إذا مات فحرقوه، ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابًا لا يعذبه أحدا من العالمين، قال‏:‏ فلما مات فعلوا ما أمرهم، فأمر الله البحر فجمع ما فيه وأمر البر فجمع ما فيه، ثم قال له‏:‏ لم فعلت هذا‏؟‏ قال‏:‏ من خشيتك يا رب وأنت أعلم، فغفر له‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث، أخبرنا أبو الحسين محمد بن يعقوب الكسائي، أخبرنا عبد الله بن محمود، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال، حدثنا عبد الله بن المبارك عن عكرمة بن عمار، حدثنا ضمضم بن جوس قال‏:‏ دخلت مسجد المدينة فناداني شيخ، فقال‏:‏ يا يماني تعال، وما أعرفه، فقال‏:‏ لا تقولن لرجل‏:‏ والله لا يغفر الله لك أبدًا، ولا يدخلك الله الجنة، قلت‏:‏ ومن أنت يرحمك الله‏؟‏ قال‏:‏ أبو هريرة، قال فقلت‏:‏ إن هذه الكلمة ‏[‏يقولها‏]‏ أحدنا لبعض أهله إذا غضب أو لزوجته أو لخادمه، قال‏:‏ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إن رجلين كانا في بني إسرائيل متحابين أحدهما مجتهد في العبادة والآخر يقول كأنه مذنب، فجعل يقول‏:‏ أقصر أقصر عما أنت فيه، قال فيقول‏:‏ خلني وربي، قال‏:‏ حتى وجده يومًا على ذنب استعظمه، فقال‏:‏ أقصر، فقال‏:‏ خلني وربي أبعثت علي رقيبًا‏؟‏ فقال‏:‏ والله لا يغفر الله لك أبدًا، ولا يدخلك الجنة أبدًا‏.‏ قال‏:‏ فبعث الله إليهما ملكًا فقبض أرواحهما فاجتمعا عنده، فقال للمذنب‏:‏ ادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر‏:‏ أتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي‏؟‏ فقال‏:‏ لا يا رب، فقال اذهبوا به إلى النار‏"‏ قال أبو هريرة‏:‏ والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ‏}‏‏.‏

أخبرنا عبد الرحمن بن أبي بكر القفال، أخبرنا أبو مسعود محمد بن أحمد بن يونس الخطيب، حدثنا محمد بن يعقوب الأصم، حدثنا أبو قلابة، حدثنا أبو عاصم، حدثنا زكريا بن إسحاق عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏إلا اللمم‏"‏ ‏[‏النجم - 32‏]‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

إن تغفر اللهم تغفر جما *** وأي عبد لك لا ألما

تفسير الآيات رقم ‏[‏54 - 55‏]‏

‏{‏وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ‏(‏54‏)‏ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ‏}‏ أقبلوا وارجعوا إليه بالطاعة، ‏{‏وَأَسْلِمُوا لَهُ‏}‏ أخلصوا له التوحيد، ‏{‏مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ القرآن، والقرآن كله حسن، ومعنى الآية ما قاله الحسن‏:‏ التزموا طاعته واجتنبوا معصيته، فإن القرآن ذكر القبيح لتجتنبه، وذكر الأدون لئلا ترغب فيه، وذكر الأحسن لتؤثره‏.‏ قال السدي‏:‏ ‏"‏الأحسن‏"‏ ما أمر الله به في الكتاب، ‏{‏مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56 - 61‏]‏

‏{‏أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ‏(‏56‏)‏ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ‏(‏57‏)‏ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏58‏)‏ بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ‏(‏59‏)‏ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ ‏(‏60‏)‏ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ‏}‏ يعني‏:‏ لئلا تقول نفس، كقوله‏:‏ ‏"‏وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم‏"‏ ‏[‏النحل - 15‏]‏ أي‏:‏ لئلا تميد بكم، قال المبرد‏:‏ أي بادروا واحذروا أن تقول نفس‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ خوف أن تصيروا إلى حال تقولون هذا القول، ‏{‏يَا حَسْرَتَا‏}‏ يا ندامتا، والتحسر الاغتمام على ما فات، وأراد‏:‏ يا حسرتي، على الإضافة، لكن العرب تحول ياء الكناية ألفًا في الاستغاثة، فتقول‏:‏ يا حسرتا ويا ندامتا، وربما ألحقوا بها الياء بعد الألف ليدل على الإضافة، وكذلك قرأ أبو جعفر ‏{‏يا حسرتاي‏}‏، وقيل‏:‏ معنى قوله‏:‏ ‏"‏يا حسرتا‏"‏ يا أيتها الحسرة هذا وقتك، ‏{‏عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ‏}‏ قال الحسن‏:‏ قصرت في طاعة الله‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ في أمر الله‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ في حق الله‏.‏ وقيل‏:‏ ضيعت في ذات الله‏.‏ وقيل‏:‏ معناه قصرت في الجانب الذي يؤدي إلى رضاء الله‏.‏ والعرب تسمي الجنب جانبًا ‏{‏وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ‏}‏ المستهزئين بدين الله وكتابه ورسوله والمؤمنين قال قتادة‏:‏ لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى جعل يسخر بأهل طاعته‏.‏

‏{‏أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ‏}‏ عيانًا، ‏{‏لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً‏}‏ رجعة إلى الدنيا، ‏{‏فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ الموحدين‏.‏

ثم يقال لهذا القائل‏:‏ ‏{‏بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي‏}‏ يعني‏:‏ القرآن، ‏{‏فَكَذَّبْتَ بِهَا‏}‏ وقلت إنها ليست من الله، ‏{‏وَاسْتَكْبَرْتَ‏}‏ تكبرت عن الإيمان بها، ‏{‏وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ‏}‏ فزعموا أن له ولدًا وشريكًا، ‏{‏وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ‏}‏ عن الإيمان‏.‏

‏{‏وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ‏}‏ قرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر‏:‏ ‏"‏بمفازاتهم‏"‏ بالألف على الجمع أي‏:‏ بالطرق التي تؤديهم إلى الفوز والنجاة، وقرأ الآخرون‏:‏ ‏"‏بمفازتهم‏"‏ على الواحد لأن المفازة بمعنى الفوز، أي‏:‏ ينجيهم بفوزهم من النار بأعمالهم الحسنة، قال المبرد‏:‏ المفازة مفعلة من الفوز، والجمع حسن كالسعادة والسعادات ‏{‏لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ‏}‏ لا يصيبهم المكروه، ‏{‏وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62 - 67‏]‏

‏{‏اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ‏(‏62‏)‏ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏63‏)‏ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ‏(‏64‏)‏ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏65‏)‏ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏66‏)‏ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

‏{‏اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ‏}‏ أي‏:‏ الأشياء كلها موكولة إليه فهو القائم بحفظها‏.‏ ‏{‏له مقاليد السموات والأرض‏}‏ مفاتيح خزائن السموات والأرض واحدها مقلاد، مثل مفتاح، ومقليد مثل منديل ومناديل‏.‏ وقال قتادة ومقاتل‏:‏ مفاتيح السموات والأرض بالرزق والرحمة‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ خزائن المطر وخزائن النبات‏.‏ ‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ‏}‏‏؟‏ قال مقاتل‏:‏ وذلك أن كفار قريش دعوه إلى دين آبائه‏.‏ قرأ أهل الشام ‏"‏تأمرونني‏"‏ بنونين خفيفتين على الأصل، وقرأ أهل المدينة بنون واحدة خفيفة على الحذف، وقرأ الآخرون بنون واحدة مشددة على الإدغام‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ‏}‏ الذي عملته قبل الشرك وهذا خطاب مع الرسول صلى الله عليه وسلم، والمراد منه غيره‏.‏ وقيل‏:‏ هذا أدب من الله عز وجل لنبيه وتهديد لغيره، لأن الله تعالى عصمه من الشرك‏.‏ ‏{‏وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ‏}‏ لإنعامه عليك‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏ ما عظموه حق عظمته حين أشركوا به غيره، ثم أخبر عن عظمته فقال‏:‏ ‏{‏وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا آدم، حدثنا شيبان عن منصور عن إبراهيم عن عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السموات على إصبع والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول‏:‏ أنا الملك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقًا لقول الحبر، ثم قرأ‏:‏ ‏"‏وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة‏"‏‏.‏

ورواه مسلم بن الحجاج عن أحمد بن عبد الله بن يونس عن فضيل بن عياض عن منصور، وقال‏:‏ ‏"‏والجبال والشجر على إصبع، وقال‏:‏ ثم يهزهن هزًا، فيقول‏:‏ ‏(‏أنا الملك أنا الله‏)‏‏.‏

أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي، أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أخبرني الحسين بن فنجويه، حدثنا عمر بن الخطاب، حدثنا عبد الله بن الفضل، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو أسامة، عن عمر بن حمزة، عن سالم بن عبد الله، أخبرني عبد الله بن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول‏:‏ أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون‏؟‏ ثم يطوي الأرضين ثم يأخذهن بشماله، ثم يقول‏:‏ أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون‏"‏، هذا حديث صحيح أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة‏.‏

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة الكشميهني، حدثنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث، حدثنا محمد بن يعقوب الكسائي، أخبرنا عبد الله بن محمود، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن يونس عن الزهري، حدثني سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول‏:‏ أنا الملك أين ملوك الأرض‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ‏}‏ ماتوا من الفزع وهي النفخة الأولى، ‏{‏إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ‏}‏ اختلفوا في الذين استثناهم الله عز وجل، وقد ذكرناهم في سورة النمل، قال الحسن‏:‏ إلا من شاء الله يعني الله وحده، ‏{‏ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ‏}‏ أي‏:‏ في الصور، ‏{‏أُخْرَى‏}‏ أي‏:‏ مرة أخرى، ‏{‏فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ‏}‏ ‏[‏من قبورهم‏]‏ ينتظرون أمر الله فيهم‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا محمد، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما بين النفختين أربعون‏"‏ قالوا‏:‏ أربعون يومًا‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أبيت‏"‏، قالوا‏:‏ أربعون شهرًا‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أبيت‏"‏، قالوا‏:‏ أربعون سنة‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أبيت‏"‏، قال‏:‏ ‏"‏ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظم واحد، وهو عجب الذنب ومنه يتركب الخلق يوم القيامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69 - 71‏]‏

‏{‏وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ‏(‏69‏)‏ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ‏(‏70‏)‏ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ‏}‏ أضاءت، ‏{‏بِنُورِ رَبِّهَا‏}‏ بنور خالقها، وذلك حين يتجلى الرب لفصل القضاء بين خلقه، فما يتضارون في نوره كما لا يتضارون في الشمس في اليوم الصحو‏.‏ وقال الحسن والسدي‏:‏ بعدل ربها، وأراد بالأرض عرصات القيامة، ‏{‏وَوُضِعَ الْكِتَابُ‏}‏ أي‏:‏ كتاب الأعمال، ‏{‏وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني الذين يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال عطاء‏:‏ يعني الحفظة، يدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏"‏وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد‏"‏ ‏[‏ق - 21‏]‏ ‏{‏وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ‏}‏ أي‏:‏ بالعدل، ‏{‏وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا يزاد في سيئاتهم ولا ينقص من حسناتهم‏.‏

‏{‏وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ‏}‏ أي‏:‏ ثواب ما عملت، ‏{‏وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ‏}‏ قال عطاء‏:‏ يريد أني عالم بأفعالهم لا أحتاج إلى كاتب ولا إلى شاهد‏.‏

‏{‏وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ‏}‏ سوقًا عنيفًا، ‏{‏زُمَرًا‏}‏ أفواجًا بعضها على إثر بعض، كل أمة على حدة قال أبو عبيدة والأخفش‏:‏ ‏"‏زمرًا‏"‏ أي‏:‏ جماعات في تفرقة، واحدتها زمرة ‏{‏حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا‏}‏ السبعة وكانت مغلقة قبل ذلك، قرأ أهل الكوفة ‏"‏فتحت، وفتحت‏"‏ بالتخفيف، وقرأ الآخرون بالتشديد على التكثير ‏{‏وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا‏}‏ توبيخًا وتقريعًا لهم، ‏{‏أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ‏}‏ من أنفسكم ‏{‏يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ‏}‏ وجبت، ‏{‏كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏ وهو قوله عز وجل‏:‏ ‏"‏لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين‏"‏ ‏[‏هود - 119‏]‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72 - 73‏]‏

‏{‏قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ‏(‏72‏)‏ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا‏}‏ قال الكوفيون‏:‏ هذه الواو زائدة حتى تكون جوابًا لقوله‏:‏ ‏"‏حتى إذا جاءوها‏"‏ كما في سوق الكفار، وهذا كما قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء‏"‏ ‏[‏ الأنبياء - 48‏]‏ ‏[‏أي‏:‏ ضياء‏]‏ والواو زائدة‏.‏

وقيل‏:‏ الواو واو الحال، مجازه‏:‏ وقد فتحت أبوابها، فأدخل الواو لبيان أنها كانت مفتحة قبل مجيئهم، وحذفها في الآية الأولى لبيان أنها كانت مغلقة قبل مجيئهم‏.‏

فإذا لم تجعل الواو زائدة في قوله‏:‏ ‏"‏وفتحت‏"‏ اختلفوا في جواب قوله‏:‏ ‏"‏وقال لهم خزنتها‏"‏ والواو فيه ملغاة تقديره‏:‏ حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ القول عندي أن الجواب محذوف، تقديره‏:‏ ‏"‏حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها، وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين‏"‏ دخلوها، فحذف ‏"‏دخلوها‏"‏ لدلالة الكلام عليه‏.‏

‏{‏وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ‏}‏ يريد أن خزنة الجنة يسلمون عليهم ويقولون‏:‏ طبتم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ طاب لكم المقام‏.‏ قال قتادة‏:‏ هم إذا قطعوا النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص بعضهم من بعض حتى إذا هذبوا وطيبوا أدخلوا الجنة، فقال لهم رضوان وأصحابه‏:‏ ‏"‏سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين‏"‏‏.‏

وروي عن عليّ عليه السلام قال‏:‏ سيقوا إلى الجنة فإذا انتهوا إليها وجدوا عند بابها شجرة يخرج من تحت ساقها عينان فيغتسل المؤمن من إحداهما فيطهر ظاهره، ويشرب من الأخرى فيطهر باطنه، وتلقيهم الملائكة على أبواب الجنة يقولون‏:‏ ‏{‏سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74 - 75‏]‏

‏{‏وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ‏(‏74‏)‏ وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ‏}‏ أي‏:‏ أرض الجنة‏.‏ وهو قوله عز وجل‏:‏ ‏"‏ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون‏"‏ ‏[‏الأنبياء - 105‏]‏ ‏{‏نَتَبَوَّأُ‏}‏ ننزل، ‏{‏مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ‏}‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ‏}‏ ثواب المطيعين‏.‏

‏{‏وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ‏}‏ أي‏:‏ محدقين محيطين بالعرش، مطيفين بحوافيه أي‏:‏ بجوانبه، ‏{‏يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ‏}‏ قيل‏:‏ هذا تسبيح تلذذ لا تسبيح تعبد، لأن التكليف ‏[‏يزول‏]‏ في ذلك اليوم ‏{‏وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ‏}‏ أي‏:‏ قضي بين أهل الجنة والنار بالعدل، ‏{‏وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ يقول أهل الجنة‏:‏ شكرًا لله، حين تم وعد الله لهم‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان، حدثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني، حدثنا حميد بن زنجويه، حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال‏:‏ إن مثل القرآن كمثل رجل انطلق يرتاد لأهله منزلا فمر بأثر غيث فبينما هو يسير فيه ويتعجب منه إذ هبط على روضات دمثات، فقال‏:‏ عجبت من الغيث الأول فهذا أعجب منه وأعجب، فقيل له‏:‏ إن مثل الغيث الأول مثل عظم القرآن، وإن مثل هؤلاء الروضات الدمثات مثل الـ حم في القرآن‏.‏

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا أبو محمد الرومي، حدثنا أبو العباس السراج، حدثنا قتيبة، حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب أن الجراح بن أبي الجراح حدثه عن ابن عباس قال‏:‏ لكل شيء لباب ولباب والقرآن الحواميم‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ إذا وقعت في آل حم وقعت في روضات دمثات أتأنق فيهن‏.‏ وقال سعد بن إبراهيم‏:‏ كن - آل حم - يسمين العرائس‏.‏

سورة غافر

مكية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 3‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ‏(‏2‏)‏ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏حم‏}‏ قد سبق الكلام في حروف التهجي‏.‏ قال السدي عن ابن عباس‏:‏ حم اسم الله الأعظم‏.‏ وروى عكرمة عنه قال‏:‏ آلر، وحم، ونون، حروف ‏"‏الرحمن‏"‏ مقطعة‏.‏ وقال سعيد بن جبير وعطاء الخراساني‏:‏ الحاء افتتاح أسمائه‏:‏ حكيم حميد حي حليم حنان، والميم افتتاح أسمائه‏:‏ مالك مجيد منان‏.‏ وقال الضحاك والكسائي‏:‏ معناه قضى ما هو كائن كأنهما أشارا إلى أن معناه‏:‏ حم، بضم الحاء وتشديد الميم‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر‏:‏ حم بكسر الحاء، والباقون بفتحها‏.‏

‏{‏تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ‏}‏ ساتر الذنب، ‏{‏وَقَابِلِ التَّوْبِ‏}‏

يعني التوبة، مصدر تاب يتوب توبًا‏.‏ وقيل‏:‏ التوب جمع توبة مثل دومة ودوم وحومة وحوم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ غافر الذنب لمن قال لا إله إلا الله، ‏[‏وقابل التوب ممن قال لا إله إلا الله‏]‏ ‏{‏شَدِيدُ الْعِقَابِ‏}‏ لمن لا يقول لا إله إلا الله، ‏{‏ذِي الطَّوْلِ‏}‏ ذي الغنى عمن لا يقول لا إله إلا الله‏.‏ قال مجاهد‏:‏ ‏"‏ذي الطول‏"‏‏:‏ ذي السعة والغنى‏.‏ وقال الحسن‏:‏ ذو الفضل‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ذو النعم‏.‏ وقيل‏:‏ ذو القدرة‏.‏ وأصل الطول الإنعام الذي تطول مدته على صاحبه‏.‏ ‏{‏لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ‏}‏‏.‏

‏{‏مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ‏}‏

‏{‏مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ‏}‏ في دفع آيات الله بالتكذيب والإنكار، ‏{‏إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ قال أبو العالية‏:‏ آيتان ما أشدهما على الذين يجادلون في القرآن‏:‏ ‏"‏ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا‏"‏ و‏"‏إن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد‏"‏ ‏[‏ البقرة - 176‏]‏‏.‏

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا عبد الله بن أحمد، حدثنا محمد بن خالد، أخبرنا داود بن سليمان، أخبرنا عبد الله بن حميد، حدثنا الحسين بن علي الجعفي عن زائدة عن ليث عن سعد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن جدالا في القرآن كفر‏"‏‏.‏

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو الحسين بن بشران، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن الزهري عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال‏:‏ سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قومًا يتمارون في القرآن، فقال‏:‏ ‏"‏إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله عز وجل بعضه ببعض، وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضًا، فلا تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوه، وما جهلتم منه فكلوه إلى عالمه‏"‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ‏}‏ تصرفهم في البلاد للتجارات وسلامتهم فيها مع كفرهم، فإن عاقبة أمرهم العذاب، نظيره قوله عز وجل‏:‏ ‏"‏لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد‏"‏ ‏[‏آل عمران - 196‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 6‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ‏(‏5‏)‏ وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ‏}‏ وهم الكفار الذين تحزبوا على أنبيائهم بالتكذيب من بعد قوم نوح، ‏{‏وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ليقتلوه ويهلكوه‏.‏ وقيل‏:‏ ليأسروه‏.‏ والعرب تسمي الأسير أخيذًا، ‏{‏وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا‏}‏ ليبطلوا، ‏{‏بِهِ الْحَقَّ‏}‏ الذي جاء به الرسل ومجادلتهم مثل قولهم‏:‏ ‏"‏إن أنتم إلا بشر مثلنا‏"‏ ‏[‏ إبراهيم - 10‏]‏، و‏"‏لولا أنزل علينا الملائكة‏"‏ ‏[‏الفرقان - 21‏]‏ ونحو ذلك، ‏{‏فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ‏}‏‏.‏

‏{‏وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ‏}‏ يعني‏:‏ كما حقت كلمة العذاب على الأمم المكذبة حقت، ‏{‏عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ من قومك، ‏{‏أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ‏}‏ قال الأخفش‏:‏ لأنهم أو بأنهم أصحاب النار‏.‏

‏{‏الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ‏(‏7‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ‏}‏ حملة العرش والطائفون به وهم الكروبيون، وهم سادة الملائكة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى أسفل قدميه مسيرة خمسمائة عام، ويروى أن أقدامهم في تخوم الأرضين، والأرضون والسموات إلى حجزهم، وهم يقولون‏:‏ سبحان ذي العزة والجبروت، سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبوح قدوس رب الملائكة والروح‏.‏

وقال ميسرة بن عروبة‏:‏ أرجلهم في الأرض السفلى، ورؤوسهم خرقت العرش، وهم خشوع لا يرفعون طرفهم، وهم أشد خوفًا من أهل السماء السابعة، وأهل السماء السابعة أشد خوفًا من أهل السماء التي تليها، والتي تليها أشد خوفًا من التي تليها‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ بين الملائكة والعرش سبعون حجابًا من نور‏.‏

وروى محمد بن المنكدر عن جابر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش ما بين شحمة أذنيه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام‏"‏‏.‏

وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أنه قال‏:‏ ‏[‏إن ما‏]‏ بين القائمة من قوائم العرش والقائمة الثانية خفقان الطير المسرع ثلاثين ألف عام، والعرش يكسى كل يوم سبعين ألف لون من النور، لا يستطيع أن ينظر إليه خلق من خلق الله، والأشياء كلها في العرش كحلقة في فلاة‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ بين السماء السابعة وبين العرش سبعون ألف حجاب من نور، وحجاب من ظلمة وحجاب نور وحجاب ظلمة‏.‏

وقال وهب بن منبه‏:‏ إن حول العرش سبعين ألف صف من الملائكة، صف خلف صف يطوفون بالعرش، يقبل هؤلاء ‏[‏ويدبر‏]‏ هؤلاء، فإذا استقبل بعضهم بعضًا هلل هؤلاء وكبر هؤلاء، ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام، أيديهم إلى أعناقهم قد وضعوها على عواتقهم، فإذا سمعوا تكبير أولئك وتهليلهم رفعوا أصواتهم، فقالوا‏:‏ سبحانك وبحمدك ما أعظمك وأجلك أنت الله لا إله غيرك، أنت الأكبر، الخلق كلهم لك راجعون‏.‏ ومن وراء هؤلاء مائة ألف صف من الملائكة قد وضعوا اليمنى على اليسرى ليس منهم أحد إلا وهو يسبح بتحميد لا يسبحه الآخر، ما بين جناحي أحدهم مسيرة ثلثمائة عام، وما بين شحمة أذنه إلى عاتقه أربعمائة عام، واحتجب الله من الملائكة الذين حول العرش بسبعين حجابًا من نار، وسبعين حجابًا من ظلمة، وسبعين حجابًا من نور، وسبعين حجابًا من در أبيض، وسبعين حجابًا من ياقوت أحمر، ‏[‏وسبعين حجابًا من ياقوت أصفر‏]‏ وسبعين حجابًا من زبرجد أخضر، وسبعين حجابًا من ثلج، وسبعين حجابًا من ماء، وسبعين حجابًا من برد، وما لا يعلمه إلا الله تعالى‏.‏ قال‏:‏ ولكل واحد من حملة العرش ومن حوله أربعة وجوه، وجه ثور ووجه أسد ووجه نسر ووجه إنسان، ولكل واحد منهم أربعة أجنحة، أما جناحان فعلى وجهه مخافة أن ينظر إلى العرش فيصعق، وأما جناحان فيهفو بهما، ليس لهم كلام إلا التسبيح والتحميد والتكبير والتمجيد‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ‏}‏ يصدقون بأنه واحد لا شريك له‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو منصور السمعاني، حدثنا أبو جعفر الرياني، حدثنا حميد بن زنجويه، حدثنا عمر بن عبد الله الرقاشي، حدثنا جعفر بن سليمان، حدثنا هارون بن رباب، حدثنا شهر بن حوشب قال‏:‏ حملة العرش ثمانية، فأربعة منهم يقولون‏:‏ سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك، وأربعة منهم يقولون‏:‏ سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك، قال‏:‏ وكأنهم ينظرون ذنوب بني آدم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا‏}‏ يعني يقولون ربنا، ‏{‏وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا‏}‏ قيل‏:‏ نصب على التفسير، وقيل‏:‏ على النقل، أي‏:‏ وسعت رحمتك وعلمك كل شيء، ‏{‏فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ‏}‏ دينك ‏{‏وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ‏}‏ قال ‏[‏مطرف‏]‏‏:‏ أنصح عباد الله للمؤمنين هم الملائكة، وأغش الخلق للمؤمنين هم الشياطين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ يدخل المؤمن الجنة فيقول‏:‏ أين أبي‏؟‏ أين أمي، أين ولدي أين زوجي‏؟‏ فيقال‏:‏ إنهم لم يعملوا مثل عملك، فيقول‏:‏ إني كنت أعمل لي ولهم، فيقال‏:‏ أدخلوهم الجنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9 - 11‏]‏

‏{‏وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏9‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمَانِ فَتَكْفُرُونَ ‏(‏10‏)‏ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ‏}‏ العقوبات، ‏{‏وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ‏}‏ أي‏:‏ ومن تقه السيئات يعني العقوبات، وقيل‏:‏ جزاء السيئات، ‏{‏يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ‏}‏ يوم القيامة وهم في النار وقد مقتوا أنفسهم حين عرضت عليهم سيئاتهم، وعاينوا العذاب، فيقال لهم‏:‏ ‏{‏لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمَانِ فَتَكْفُرُونَ‏}‏ يعني لمقت الله إياكم في الدنيا إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبر من مقتكم اليوم أنفسكم عند حلول العذاب بكم‏.‏

‏{‏قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ‏}‏ قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - وقتادة والضحاك‏:‏ كانوا أمواتًا في أصلاب آبائهم فأحياهم الله في الدنيا، ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة، فهما موتتان وحياتان، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم‏"‏ ‏[‏ البقرة - 28‏]‏، وقال السدي‏:‏ أميتوا في الدنيا ثم أحيوا في قبورهم للسؤال، ثم أميتوا في قبورهم ثم أحيوا في الآخرة‏.‏ ‏{‏فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ‏}‏ أي‏:‏ من خروج من النار إلى الدنيا فنصلح أعمالنا ونعمل بطاعتك، نظيره‏:‏ ‏"‏هل إلى مرد من سبيل‏"‏ ‏[‏الشورى - 44‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12 - 16‏]‏

‏{‏ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ‏(‏12‏)‏ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنزلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَنْ يُنِيبُ ‏(‏13‏)‏ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ‏(‏14‏)‏ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ‏(‏15‏)‏ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ‏(‏16‏)‏‏}‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ‏}‏ وفيه متروك استغني عنه لدلالة الظاهر عليه، مجازه‏:‏ فأجيبوا أن لا سبيل إلى ذلك، وهذا العذاب والخلود في النار بأنكم إذا دعي الله وحده كفرتم، إذا قيل لا إله إلا الله ‏[‏كفرتم‏]‏ وقلتم‏:‏ ‏"‏أجعل الآلهة إلهًا واحدًا‏"‏ ‏[‏ص - 5‏]‏ ‏{‏وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ‏}‏ غيره، ‏{‏تُؤْمِنُوا‏}‏ تصدقوا ذلك الشرك، ‏{‏فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ‏}‏ الذي لا أعلى منه ولا أكبر‏.‏

‏{‏هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنزلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا‏}‏ يعني‏:‏ المطر الذي هو سبب الأرزاق، ‏{‏وَمَا يَتَذَكَّرُ‏}‏ وما يتعظ بهذه الآيات، ‏{‏إِلا مَنْ يُنِيبُ‏}‏ يرجع إلى الله تعالى في جميع أموره‏.‏

‏{‏فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ‏}‏ الطاعة والعبادة‏.‏ ‏{‏وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ‏}‏ رافع درجات الأنبياء والأولياء في الجنة، ‏{‏ذُو الْعَرْشِ‏}‏ خالقه ومالكه، ‏{‏يُلْقِي الرُّوحَ‏}‏ ينزل الوحي، سماه روحًا لأنه تحيا به القلوب كما تحيا الأبدان بالأرواح، ‏{‏مِنْ أَمْرِهِ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ من قضائه‏.‏ وقيل‏:‏ من قوله‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ بأمره‏.‏ ‏{‏عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ‏}‏ أي‏:‏ لينذر النبي بالوحي، ‏{‏يَوْمَ التَّلاقِ‏}‏ وقرأ يعقوب بالتاء أي‏:‏ لتنذر أنت يا محمد يوم التلاق، يوم يلتقي أهل السماء وأهل الأرض‏.‏ قال قتادة ومقاتل‏:‏ يلتقي فيه الخلق والخالق‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ يتلاقى العباد‏.‏ وقال ميمون بن مهران‏:‏ يلتقي الظالم والمظلوم والخصوم‏.‏ وقيل‏:‏ يلتقي العابدون والمعبودون‏.‏ وقيل‏:‏ يلتقي فيه المرء مع عمله‏.‏

‏{‏يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ‏}‏ خارجون من قبورهم ظاهرون لا يسترهم شيء، ‏{‏لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ‏}‏ من أعمالهم وأحوالهم، ‏{‏شَيْءٌ‏}‏ يقول الله تعالى في ذلك اليوم بعد فناء الخلق‏:‏ ‏{‏لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْم‏}‏

فلا أحد يجيبه، فيجيب نفسه فيقول‏:‏ ‏{‏لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ‏}‏ الذي قهر الخلق بالموت‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17 - 21‏]‏

‏{‏الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏17‏)‏ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ ‏(‏18‏)‏ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ‏(‏19‏)‏ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏20‏)‏ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ‏}‏ يجزى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ‏{‏لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ‏}‏‏.‏

‏{‏وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ‏}‏ يعني‏:‏ يوم القيامة، سميت بذلك لأنها قريبة إذ كل ما هو آت قريب، نظيره قوله عز وجل‏:‏ ‏"‏أزفت الآزفة‏"‏ ‏[‏النجم - 57‏]‏ أي‏:‏ قربت القيامة ‏{‏إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ‏}‏ وذلك أنها تزول عن أماكنها من الخوف حتى تصير إلى الحناجر، فلا هي تعود إلى أماكنها، ولا هي تخرج من أفواههم فيموتوا ويستريحوا، ‏{‏كَاظِمِين‏}‏ مكروبين ممتلئين خوفًا وحزنًا، والكظم تردد الغيظ والخوف والحزن في القلب حتى يضيق به‏.‏ ‏{‏مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ‏}‏ قريب ينفعهم، ‏{‏وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ‏}‏ فيشفع فيهم‏.‏

‏{‏يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ‏}‏ أي‏:‏ خيانتها وهي مسارقة النظر إلى ما لا يحل‏.‏ قال مجاهد‏:‏ وهو نظر الأعين إلى ما نهى الله عنه‏.‏ ‏{‏وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ‏}‏‏.‏

‏{‏وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ‏}‏ ‏[‏يعني الأوثان‏]‏ ‏{‏لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ‏}‏ لأنها لا تعلم شيئًا ولا تقدر على شيء، قرأ نافع ‏[‏وابن عامر‏]‏‏:‏ ‏"‏تدعون‏"‏ بالتاء، وقرأ الآخرون بالياء‏.‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏‏.‏

‏{‏أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً‏}‏ قرأ ابن عامر‏:‏ ‏"‏منكم‏"‏ بالكاف، وكذلك هو في مصاحفهم، ‏{‏وَآثَارًا فِي الأرْضِ‏}‏ فلم ينفعهم ذلك ‏{‏فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ‏}‏ يدفع عنهم العذاب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22 - 26‏]‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏22‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏23‏)‏ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ‏(‏24‏)‏ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ ‏(‏25‏)‏ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏ذَلِكَ‏}‏ أي‏:‏ ذلك العذاب الذي نزل بهم، ‏{‏بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا‏}‏ يعني فرعون وقومه ‏{‏اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ‏}‏ قال قتادة‏:‏ هذا غير القتل الأول، لأن فرعون كان قد أمسك عن قتل الولدان، فلما بعث موسى - عليه السلام - أعاد القتل عليهم، فمعناه أعيدوا عليهم القتل ‏{‏وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ‏}‏ ليصدوهم بذلك عن متابعة موسى ومظاهرته، ‏{‏وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ‏}‏ وما مكر فرعون وقومه واحتيالهم، ‏{‏إِلا فِي ضَلالٍ‏}‏ أي‏:‏ يذهب كيدهم باطلا ويحيق بهم ما يريده الله عز وجل‏.‏

‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ‏}‏ لملئه، ‏{‏ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى‏}‏ وإنما قال هذا لأنه كان في خاصة قوم فرعون من يمنعه من قتله خوفًا من الهلاك ‏{‏وَلْيَدْعُ رَبَّهُ‏}‏ أي‏:‏ وليدع موسى ربه الذي يزعم أنه أرسله إلينا فيمنعه منا، ‏{‏إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ‏}‏ يغير، ‏{‏دِينَكُمْ‏}‏ الذي أنتم عليه، ‏{‏أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ‏}‏ قرأ يعقوب وأهل الكوفة ‏"‏أو أن يظهر ‏"‏ وقرأ الآخرون ‏"‏وأن يظهر ‏"‏ وقرأ أهل المدينة والبصرة وحفص ‏"‏يظهر‏"‏ بضم الياء وكسر الهاء على التعدية، ‏{‏الْفَسَادَ‏}‏ نصب لقوله‏:‏ ‏"‏أن يبدل دينكم‏"‏ حتى يكون الفعلان على نسق واحد، وقرأ الآخرون بفتح الياء والهاء على اللزوم، ‏"‏الفساد‏"‏ رفع وأراد بالفساد تبديل الدين وعبادة غيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27 - 28‏]‏

‏{‏وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ‏(‏27‏)‏ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ مُوسَى‏}‏ لما توعده فرعون بالقتل، ‏{‏إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ‏}‏‏.‏

واختلفوا في هذا المؤمن‏:‏ قال مقاتل والسدي‏:‏ كان قبطيًا ابن عم فرعون وهو الذي حكى الله عنه فقال‏:‏ ‏"‏وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى‏"‏ ‏[‏القصص - 20‏]‏، وقال قوم‏:‏ كان إسرائيليًا، ومجاز الآية‏:‏ وقال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون وكان اسمه حزئيل عند ابن عباس، وأكثر العلماء‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ كان اسمه ‏[‏جبران‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ كان اسم الرجل الذي آمن من آل فرعون حبيبًا ‏{‏أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ‏}‏ لأن يقول ربي الله، ‏{‏وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ‏}‏ أي‏:‏ بما يدل على صدقه، ‏{‏وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ‏}‏ لا يضركم ذلك، ‏{‏وَإِنْ يَكُ صَادِقًا‏}‏ فكذبتموه، ‏{‏يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ‏}‏ قال أبو عبيد‏:‏ المراد بالبعض الكل، أي‏:‏ إن قتلتموه وهو صادق أصابكم ما يتوعدكم به من العذاب‏.‏ قال الليث‏:‏ ‏"‏بعض‏"‏ صلة، يريد‏:‏ يصبكم الذي يعدكم‏.‏ وقال أهل المعاني‏:‏ هذا على الظاهر في الحجاج كأنه قال‏:‏ أقل ما في صدقه أن يصيبكم بعض الذي يعدكم وفي بعض ذلك هلاككم، فذكر البعض ليوجب الكل، ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي‏}‏ إلى دينه، ‏{‏مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ‏}‏ ‏[‏مشرك‏]‏ ‏{‏كَذَّابٌ‏}‏ على الله‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثني الأوزاعي، حدثني يحيى بن أبي كثير، حدثني محمد بن إبراهيم التيمي، حدثني عروة بن الزبير قال‏:‏ قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص‏:‏ أخبرني بأشد ما صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه به خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏"‏أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29 - 32‏]‏

‏{‏يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ ‏(‏29‏)‏ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأحْزَابِ ‏(‏30‏)‏ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ ‏(‏31‏)‏ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأرْضِ‏}‏ غالبين في أرض مصر، ‏{‏فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ‏}‏ من يمنعنا من عذاب الله، ‏{‏إِنْ جَاءَنَا‏}‏ والمعنى لكم الملك اليوم فلا تتعرضوا لعذاب الله بالتكذيب، وقتل النبي فإنه لا مانع من عذاب الله إن حل بكم، ‏{‏قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ‏}‏ من الرأي والنصيحة، ‏{‏إِلا مَا أَرَى‏}‏ لنفسي‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ ما أعلمكم إلا ما أعلم، ‏{‏وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ‏}‏ ما أدعوكم إلا إلى طريق الهدى‏.‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ مثل عادتهم في الإقامة على التكذيب حتى أتاهم العذاب، ‏{‏وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ‏}‏ أي‏:‏ لا يهلكهم قبل إتخاذ الحجة عليهم‏.‏

‏{‏وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ‏}‏ يوم القيامة يدعى كل أناس بإمامهم وينادي بعضهم بعضًا، فينادي أصحاب الجنة أصحاب النار، وأصحاب النار أصحاب الجنة، وينادى أصحاب الأعراف، وينادى بالسعادة والشقاوة، ألا إن فلان بن فلان قد سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدًا، وفلان ابن فلان قد شقى شقاوة لا يسعد بعدها أبدًا، وينادى حين يذبح الموت‏:‏ يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت‏.‏

وقرأ ابن عباس والضحاك‏:‏ ‏"‏يوم التناد‏"‏ بتشديد الدال أي‏:‏ يوم التنافر، وذلك أنهم هربوا فندوا في الأرض كما تند الإبل إذا شردت عن أربابها‏.‏

قال الضحاك‏:‏ وكذلك إذا سمعوا زفير النار ندوا هربًا فلا يأتون قطرًا من الأقطار إلا وجدوا الملائكة صفوفًا، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏والملك على أرجائها‏"‏ ‏[‏الحاقة - 17‏]‏ وقوله‏:‏ ‏"‏يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا‏"‏‏.‏ ‏[‏الرحمن - 33‏]‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33 - 35‏]‏

‏{‏يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ‏(‏33‏)‏ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ‏(‏34‏)‏ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ‏}‏ منصرفين عن موقف الحساب إلى النار‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ فارين غير معجزين ‏{‏مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ‏}‏ يعصمكم من عذابه، ‏{‏وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ‏}‏‏.‏ ‏{‏وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ‏}‏ يعني يوسف بن يعقوب ‏"‏من قبل‏"‏ أي‏:‏ من قبل موسى، ‏{‏بِالْبَيِّنَاتِ‏}‏ يعني قوله‏:‏ ‏"‏أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار‏"‏ ‏[‏يوسف - 39‏]‏ ‏{‏فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ من عبادة الله وحده لا شريك له، ‏{‏حَتَّى إِذَا هَلَكَ‏}‏ مات ‏{‏قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولا‏}‏ أي‏:‏ أقمتم على كفركم وظننتم أن الله لا يجدد عليكم الحجة، ‏{‏كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ‏}‏ مشرك، ‏{‏مُرْتَابٌ‏}‏ شاك‏.‏

‏{‏الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ‏}‏ قال الزجاج‏:‏ هذا تفسير للمسرف المرتاب يعني هم الذين يجادلون في آيات الله أي‏:‏ في إبطالها بالتكذيب ‏{‏بِغَيْرِ سُلْطَانٍ‏}‏ حجة ‏{‏أَتَاهُم‏}‏ ‏[‏من الله‏]‏ ‏{‏كَبُرَ مَقْتًا‏}‏ أي‏:‏ كبر ذلك الجدال مقتًا، ‏{‏عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ‏}‏ قرأ أبو عمرو وابن عامر ‏"‏قلب‏"‏ بالتنوين، وقرأ الآخرون بالإضافة، دليله قراءة عبد الله بن مسعود ‏"‏على قلب كل متكبر جبار‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36 - 41‏]‏

‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ ‏(‏36‏)‏ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ ‏(‏37‏)‏ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ‏(‏38‏)‏ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ‏(‏39‏)‏ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏40‏)‏ وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ‏}‏ لوزيره‏:‏ ‏{‏يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا‏}‏ والصرح‏:‏ البناء الظاهر الذي لا يخفى على الناظر وإن بعد، وأصله من التصريح وهو الإظهار، ‏{‏لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ‏}‏‏.‏ ‏{‏أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ‏}‏ يعني‏:‏ طرقها وأبوابها من سماء إلى سماء، ‏{‏فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى‏}‏ قراءة العامة برفع العين نسقًا على قوله‏:‏ ‏"‏أبلغ الأسباب‏"‏ وقرأ حفص عن عاصم بنصب العين وهي قراءة حميد الأعرج، على جواب ‏"‏لعل‏"‏ بالفاء، ‏{‏وَإِنِّي لأظُنُّهُ‏}‏ يعني موسى، ‏{‏كَاذِبًا‏}‏ فيما يقول إن له ربًا غيري، ‏{‏وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ‏}‏ قرأ أهل الكوفة ويعقوب‏:‏ ‏"‏وصد‏"‏ بضم الصاد نسقًا على قوله‏:‏ ‏"‏زين لفرعون‏"‏ قال ابن عباس‏:‏ صده الله عن سبيل الهدى‏.‏ وقرأ الآخرون بالفتح أي‏:‏ صد فرعون الناس عن السبيل‏.‏ ‏{‏وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ‏}‏ يعني‏:‏ وما كيده في إبطال آيات موسى إلا في خسار وهلاك‏.‏ ‏{‏وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ‏}‏ طريق الهدى‏.‏

‏{‏يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ‏}‏ متعة تنتفعون بها مدة ثم تنقطع، ‏{‏وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ‏}‏ التي لا تزول‏.‏

‏{‏مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ لا تبعة عليهم فيما يعطون في الجنة من الخير‏.‏ ‏{‏وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ‏}‏ يعني‏:‏ ما لكم، كما تقول‏:‏ ما لي أراك حزينًا‏؟‏ أي‏:‏ ما لك‏؟‏ يقول‏:‏ أخبروني عنكم‏؟‏ كيف هذه الحال أدعوكم إلى النجاة من النار بالإيمان بالله، ‏{‏وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ‏}‏‏؟‏ إلى الشرك الذي يوجب النار، ثم فسر فقال‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42 - 46‏]‏

‏{‏تَدْعُونَنِي لأكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ ‏(‏42‏)‏ لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ‏(‏43‏)‏ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏44‏)‏ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ‏(‏45‏)‏ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏تَدْعُونَنِي لأكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ‏}‏ في انتقامه ممن كفر، الغفار لذنوب أهل التوحيد‏.‏

‏{‏لا جَرَمَ‏}‏ حقًا، ‏{‏أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ‏}‏ أي‏:‏ إلى الوثن، ‏{‏لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ‏}‏ قال السدي‏:‏ لا يستجيب لأحد في الدنيا ولا في الآخرة، يعني ليست له استجابة دعوة‏.‏ وقيل‏:‏ ليست له دعوة إلى عبادته في الدنيا لأن الأوثان لا تدعي الربوبية، ولا تدعو إلى عبادتها، وفي الآخرة تتبرأ من عابديها‏.‏ ‏{‏وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ‏}‏ مرجعنا إلى الله فيجازي كلا بما يستحق، ‏{‏وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ‏}‏ المشركين، ‏{‏هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ‏}‏‏.‏

‏{‏فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ‏}‏ إذا عاينتم العذاب حين لا ينفعكم الذكر، ‏{‏وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ‏}‏ وذلك أنهم توعدوه لمخالفته دينهم، ‏{‏إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ‏}‏ يعلم المحق من المبطل، ثم خرج المؤمن من بينهم، فطلبوه فلم يقدروا عليه‏.‏

وذلك قوله عز وجل ‏{‏فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا‏}‏ ‏[‏ما أرادوا به من الشر‏]‏ قال قتادة‏:‏ نجا مع موسى وكان قبطيًا، ‏{‏وَحَاقَ‏}‏ نزل، ‏{‏بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ‏}‏ الغرق في الدنيا، والنار في الآخرة‏.‏

وذلك قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏النَّارُ‏}‏ هي رفع على البدل من السوء، ‏{‏يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا‏}‏ صباحًا ومساءً، قال ابن مسعود‏:‏ أرواح آل فرعون في أجواف طيور سود يعرضون على النار كل يوم مرتين، تغدو وتروح إلى النار، ويقال‏:‏ يا آل فرعون هذه منازلكم حتى تقوم الساعة‏.‏

وقال قتادة، ومقاتل، والسدي، والكلبي‏:‏ تعرض روح كل كافر على النار بكرة وعشيًا ما دامت الدنيا‏.‏

أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال له‏:‏ هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة‏"‏‏.‏

ثم أخبر الله عن مستقرهم يوم القيامة فقال‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا‏}‏ قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو بكر‏:‏ ‏"‏الساعة‏"‏ ‏"‏أدخلوا‏"‏ بحذف الألف والوصل، وبضمها في الابتداء، وضم الخاء من الدخول، أي‏:‏ يقال لهم‏:‏ ادخلوا يا ‏"‏آل فرعون أشد العذاب‏"‏، وقرأ الآخرون ‏"‏أدخلوا‏"‏ بقطع الألف وكسر الخاء من الإدخال، أي‏:‏ يقال للملائكة‏:‏ أدخلوا آل فرعون أشد العذاب‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد ألوان العذاب غير الذي كانوا يعذبون به منذ أغرقوا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47 - 50‏]‏

‏{‏وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ ‏(‏47‏)‏ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ ‏(‏48‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ ‏(‏49‏)‏ قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ‏}‏ أي‏:‏ اذكر يا محمد لقومك إذ يختصمون، يعني أهل النار في النار، ‏{‏فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا‏}‏ في الدنيا، ‏{‏فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ‏}‏ والتبع يكون واحدًا وجمعًا في قول أهل البصرة، وواحده تابع، وقال أهل الكوفة‏:‏ هو جمع لا واحد له، وجمعه أتباع‏.‏

‏{‏قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ‏}‏ حين اشتد عليهم العذاب، ‏{‏لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ‏}‏‏.‏

‏{‏قَالُوا‏}‏ يعني خزنة جهنم لهم، ‏{‏أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا‏}‏ أنتم إذًا ربكم، إنا لا ندعو لكم، لأنهم علموا أنه لا يخفف عنهم العذاب‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ‏}‏ أي‏:‏ يبطل ويضل ولا ينفعهم‏.‏